رغم عشقه لدائرة الوطن إلا أنه مات في نقطة خارج محيط تلك الدائرة.
( مقال في وفاة الاخ زياد بن حمود رحمه الله وهو في مهمة رسمية خارج الوطن )
نسير في دنيانا بخطىً محسوبة وأنفاس معدودة وحركة مرسومة ، لايضع أحدٌ منا قدمه الا في مكان قد كتبه الله عليه يقول الله تعالى “وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمت الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين”
قدرة لاتستوعبها العقول ولا تدركها القلوب ، نضع أقدامنا على الارض ولا نعلم أبدا هل سنرفعها بمحض إرادتنا أم لا، نلبس ثيابنا ولا ندري هل سنخلعها بايدينا أم سيمزقها مقص مغسل الاموات.
نعلم جيدا أيها الموت بأنك مأمور ، وأن قبضك للارواح ليس بإختيارك أبدا ، فإن كنت أول من يعلم من الخلق بموت أحدنا ، فإنك لم تسبقنا بمعرفة ذلك الا بثوان قليلة ، فعلم الغيب ليس من علمك وليس من علمنا ، ولكننا نعلم شيئا واحدا وهو أن هناك هندسة خفية وخططا ثابته نسير في حياتنا وفقا لما سطر فيها يقول تعالى : “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ “
إن حياتنا مجرد نقاط قد رسمت لنا .. لست أنت مهندسها ، حتى وإن نسبناها اليك تجوزا ، فالموت والحياة لهما هندسة دقيقة جدا رسمت منذ الازل وبعلم علام الغيوب، وما أنت الا قدر من الاقدار قد أوكل اليك تنفيذ أخر نقطة من نقاط حياتنا في مكان لانعلمه نحن ولا أنت ، فتلتقي قدرا أنت ومن كتب عليه الموت في المكان والزمان، فيسدل الله بكما الستار عن عبد من عباده ، فمنذ لحظة ولادة أحدنا الى لحظة وفاته نسير بخطىً ليس لنا فيها خيار ، وعلى قول القائل (على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب). نعم، هناك شكلا هندسيا قد رسم بتقدير الله لمراحل حياتنا المتلاحقة، فأي شكل هندسي رسم القدر لفقيدنا الغالي أبا طارق رحمه الله ، وما دلالة ذلك الرسم لرجل كزياد، وهو المهندس المشهود له بالبراعة والهمة والتفاني.
انطلق ابو طارق من أول نقطة في حياته حيث مهد طفولته ومرتع صباه ، انها الاطاولة ذلك الحضن الدافيء والذي ما ترعرع فيه أحد الا وعشقه ،فقد عرفنا زياد طالبا نجيبا ذكيا متفوقا، يشع حيوية وتألقا. كنا ونحن صغارا لانكاد نسمع كلمة الصباح في الطابور المدرسي الا من فيه ، ومع أن المدرسة تزخر بالمتفوقين الا أنك تكاد تجزم بأن المدرسة لايوجد بها متميز غيره.
انتقل الى الرياض ليعيش هناك مع أسرته جل ايام حياته، حيث وضعت له هناك قدرا نقطة حياته الثانية ليرسم بين تلك النقطتين خطا مستقيما بين مرتع طفولته وحاضنة اقامته ، خطًا له دلالة عظيمة في الولاء والانتماء لمكانين غاليين.
إن من كان ارتباطه وثيقا بجذوره لايستغرب منه بره العجيب بوالديه ، فالارتباط والانتماء للجذور لا يجيدها كل أحد، فإذا رأيت انسانا يحن لماضيه ومرتبط بمكان طفولته وصباه ،حتى وإن كان ارتباطا وجدانيا، فأعلم انك أمام قامة من قامات البر النادرة ، ولذلك لا غرابة أن نجد المشهد الاخير في حياة فقيدنا الغالي ، والذي أكمل لنا منظومة ذلك الرسم ليكون متناسبا مع جبلة وطباع أؤلائك الافذاذ البررة، وبذلك ستكون نهاية أولائك حتما متناسبة مع سمتهم وهمهم واهتمامهم، فلم يكن زياد الا واحدا من هولاء وبشهادة الكثير الكثير من الناس، والناس شهود الله في أرضه.
فهاهو يحمل حقيبة سفره بعد أن دنى إلى رأس ابيه، ذلك الشيخ الوقور ليقبله ويودعه ، فهو مسافر لمهمة خارج البلاد ، وعند باب المنزل نظر خلفه وكأنه يودع المكان ، وقبل ان ينقل بصره أوصى أسرته كعادته بابيه خيرا ولكن كانت توصيته هذه المرة مختلفة، وكأنه يعلم بأن هذا السفر ليس كغيره من الاسفار.
ياله من موقف عصيب مؤلم فوالله لو كشف الغيب لتلك الاسرة الكريمة، لازدادوا من حبيبهم شبعا وارتواء، ولصحبوه في سفره إن لم يستطيعوا أن يمنعوه أصلا ، ولكن لله حكمته البالغة، فزياد يعلم ، وأبوه يعلم ، وكذلك زوجته وأولاده، وكذلك كل أقاربه وأحبابه، يعلمون جميعا بأنه سيذهب لموعد عمل رسمي في بلد بعيده، ويعلمون بأن ذلك السفر لم يكن بدعا من الاسفار. لم تكن تلك المهمة بأول مهامه، فهو رجل المهمات والانجازات، انطلق بكامل ارادته وبوافر صحته وبكل همته، ولكنهم جميعا لم يعلموا بأنه ذاهب في الاصل لموعد أخر، هو موعد سيلتقي فيه بمرسول ربه ليضع النقطة الثالثة والأخيرة في حياة ابي طارق رحمه الله، كيما يسدل الستار على تلك الحياة المليئة بالعطاء. لم يكن الموت أمرا مستبعدا، فهو أقرب الى أحدنا من شراك نعله، ولكن لماذا المكان والزمان، ولماذا جآءت تلك اللحظات بعيدا عن الوالد والولد، بعيدا عن الزوجة والبلد وهو الرجل المحب المحبوب؟
انه لمشهد رهيب لمن يتأمله، إنها رحمة الله وحكمته البالغة ، فزياد لم يكن بالابن العادي ابدا ، فجآء موته على غير العادة، فما ألطفك وما أكرمك يا الله، فقد أخرجته بعيدا عن محبيه لحكمة أنت أعلم بها، واني لاحسب أن هذا الامر من رحمة الله به وبأسرته، وبأبيه على وجه الخصوص ، فمن أحب والديه وبرهما أحبه الله وأكرمه.
لم تلهيه كثرة مشاغله وتنقلاته داخل وخارج المملكة عن والديه ، ولم تشغله حياته العملية ومكان الاقامة عن مرتع طفولته وصباه، فزياد رحمه الله تعالى منظومة متكاملة من البر الفريد، فهاهو قد زين جدران منزله بلوحات فنية لقريته، وما ذلك منه الا حبا وانتماء وبرا وولاءا، والشواهد على ذلك كثيرة، فقد أهم بتأليف كتاب وبدأ في تجميع مادته، وكاد ان ينهيه وان يخرجه لنا لولا أن سبق الاجل فقطع من فقيدنا كل أمل.
كتاب يهتم بالدرجة الاولى الى أهم مايتمناه العقلاء الا وهو التواصل بين افراد الجماعة، وما هذا والله الا من دلائل البر، فقد عاش زياد بين مكانين يتجاذبان همه واهتمامه، فحق لهما ان يتنافسان في حبه مثل ما أحبهما، وان تتمنى كل نقطة منهما الفوز باحتضانه وقت وداعه وخروج روحه، ولكن الله أبى الا أن يكون ذلك المشهد المهيب بعيدا عن أحبته وفي نقطة لم يحسب لها حساب، فإن كانت النقطتان الاولى والثانية نسير فيها برغبتنا فان النقطة الثالثة في علم الغيب لا نعلم في أي ارض سترسم ولا في اي وقت ستحدث.
ولعل في ذلك حكمة ورحمة لثكون النقطة الاخيرة في مكان بعيد حتى لا يرى بعينه الالم والحزن في وجوه من أحب ، وحتى لا يرى محبوه لحظة وداعه المؤلمة ، فكان اللقاء بملك الموت هناك بعيدا بعيدا ، فعلى قدر الحب الذي يحمله لاهله وبلده كان بعد نقطة وداعه، ليس زيادة في الحزن أو إمعانا في الالم، ولكن ليكون ذلك المكان وذاك الزمان وتلك المهمة شواهد حية ، وليكن موته في ذلك المكان الذي قدر له أن يكون نقطة حياته الاخيرة فيه بعيدا عن أحبته وبإذن الله حجة له يوم يقوم الاشهاد.
فيارب السموات والارض ويا أرحم الراحمين هذا عبدك زياد ابن عبدك ابن أمتك قد خرج من بيته ومن بلده ومن بين يدي والده المكلوم ، ومن امام نظر زوجته الرحوم ومن جوار اولاده المحبين وأحبته المقربين ، اللهم انك قد قبضت روحه في بلد لم يكن بلدا له أومستقرا له، في سفر طاعة غير معصيه مؤثرا عمله على راحته، صابرا على همه ونصبه، خدمة لدينه ووطنه وأمته، فاللهم أجعل سفره حجة له، وشفع فيه خيار امته، واجعل مكان موته شاهدا له يوم القيامة.